لأني إذا مِتُّ أخجلُ من دمعِ أمي
لو كان محمود درويش يدركُ
كمْ قلبا عربيا
من مثقفين وشعراء وقراء ومناضلين وقوميين
يتعلّق بقلبه الآن
وهو راقد بمستشفاه ميموريال هيرمان
في هيوستن بولاية تكساس بالجنوب الأمريكي
بين يدي أطبائه..
ما مات
لو كان يدري كم روحا
تتوجه للسماء
تصلي من أجله وتدعوه للعودة
فارسا للشعر النبيل
لهزم الموت
مثلما هزمه من قبل في أواخر التسعينيات
في عملية قلب مفتوح مشابهة لما يمرُّ بها الآن
فكتب جداريته العظيمة
بعدما أخفق الموتُ في إخماد خفق قلبه
فقال:
«هزمتُك يا موتُ
الفنونُ الجميلة جميعُها هزمتك
سوف أكون ما سأصيرُ في الفلك الأخيرِ
وكلُّ شيء أبيضُ
البحرُ المعلَّق فوق سقف ِغمامةٍ بيضاء
واللاشيءُ أبيضُ في سماء المُطلق البيضاء
كُنتُ
ولم أكُن
فأنا وحيدٌ في نواحي هذه الأبدية البيضاء
جئتُ قُبيل ميعادي
فلم يظهرْ ملاكٌ واحدٌ ليقولَ لي:
«ماذا فعلتَ ـ هناك - في الدنيا؟».
لكنه يعرف
وماتَ
رغم هذا !
.. يعرفُ مكانتَه
ومكانَه..
يعرف قامتَه في مدونةِ الشِّعر
ومُقامَه في قلوب الشعراء..
يعرف كيف هزّت كلمتُه أركانَ الكنيست
والمجتمع الصهيوني علي نحو أشرسَ
مما فعلتِ الرصاصاتُ والمدافع
يعرفُ أن قصائدَه شحنتِ المناضلين بالطاقة
وغذّت جيوبَهم بالذخيرة.
فلماذا مات؟
كيف لم يهزمِ الموتَ هذه المرةَ أيضا؟
كيف سمحَ للموت أن يخطفَه من بيننا
فيما لانزال نحتاج إليه
احتياجَنا للشعرَ
والهواءَ
وجلاءَ المحتّل
وعودةَ القدس؟
كيف للرجلِ أن يلملمَ أوراقَه ويرحلَ
هكذا سريعا
قبل أن يري العابرين بين الكلمات العابرة
يحملون أسماءهم وينصرفون
كما أمرهم أن يحملوا أسماءهم وينصرفوا؟
وهذه الأرضُ قد أطلعته علي أسرارِها.
«قالتْ لنا الأرضُ أسرارَها الدمويةَ
في شهر آذار مرّت أمام البنفسج والبندقية خمسُ بنات
وقفن علي باب مدرسة ابتدائية
واشتعلن مع الورد والزعتر البلدي
افتتحن نشيدَ التراب
دخلن العناق النهائي
آذارُ يأتي إلي الأرض
من باطنِ الأرض يأتي
ومن رقصة الفتيات
البنفسجُ مال قليلاً ليعبرَ صوتُ البنات
العصافيرُ مدّت مناقيرَها في اتّجاه النشيد وقلبي
أنا الأرض
والأرض أنا
خديجة!
لا تغلقي الباب
لا تدخلي في الغياب
سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل
سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل
سنطردهم من هواء الجليل».
فكيف يموتُ
دون أن يطلعنا علي أسرار الأرض؟
كيف يخونُ
وعدا قطعَه علي نفسه
ألا يموتَ قبل أمِّه كيلا يفجعها فيه؟
كيف سيواجه ثَكلَها ودموعَها تسيلُ حارقةً
فوق وجنتيها
مع دموع ملايين ممن أحبوه
وحفظوه في عقولهم
وقلوبهم
شاعراً
وإنسانا
ومقاتلا أبيضَ اليدين؟
قال إنه يعشق عمره
لأنه لو مات سيخجل من دمع أمه؟
«أحنُّ إلي خبزِ أمي
وقهوة ِأمي
ولمسةِ أمي
وتكبرُ في الطفولةُ
يوماً علي صدرِ يومٍ
وأعشقُ عمري لأني إذا مِتُّ أخجلُ من دمعِ أمي
خذيني أمي إذا عدتُ يوماً وشاحاً لهُدبِك
وغطي عظامي بعشبٍ
تعمّدَ من طُهْرِ كعبكِ
وشُدّي وثاقي
بخصلة ِشعرٍ
بخيطٍ يلوِّحُ في ذيلِ ثوبكِ
عساني أصيرُ إلهاً
إلهاً أصيرْ
إذا ما لمستُ قرارة قلبكِ
ضعيني إذا ما رجعتُ
وقوداً بتنّور ناركِ
وحبلَ غسيلٍ علي سطحِ داركِ
لأني فقدتُ الوقوفَ
بدون صلاةِ نهارك
هَرِمتُ فردّي نجومَ الطفولة
حتي أُشاركَ صغارَ العصافير دربَ الرجوع
لعشِّ انتظارِك».